فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أحدها: التجارة، قاله ابن عباس، والسدي.
والثاني: منافع الآخرة، قاله سعيد بن المسيب، والزجاج في آخرين.
والثالث: منافع الدارين جميعًا، قاله مجاهد.
وهو أصح، لأنه لا يكون القصد للتجارة خاصة، وإِنما الأصل قصدُ الحج، والتجارة تَبَع.
وفي الأيام المعلومات ستة أقوال.
أحدها: أنها أيام العشر، رواه مجاهد عن ابن عمر، وسعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والشافعي.
والثاني: تسعة أيام من العشر، قاله أبو موسى الأشعري.
والثالث: يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده، رواه نافع عن ابن عمر، ومقسم عن ابن عباس.
والرابع: أنها أيام التشريق، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عطاء الخراساني، والنخعي، والضحاك.
والخامس: أنها خمسة أيام، أولها يوم التروية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والسادس: ثلاثة أيام، أولها يوم عرفة، قاله مالك بن أنس.
وقيل: إِنما قال: {معلومات}، ليحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها.
قال الزجاج: والذِّكْر هاهنا يدل على التسمية على ما يُنحَر، لقوله تعالى: {على ما رزقهم من بهيمة الأنعام}؛ قال القاضي أبو يعلى: ويحتمل أن يكون الذِّكر المذكور هاهنا: هو الذِّكر على الهدايا الواجبة، كالدم الواجب لأجل التمتع والقران، ويحتمل أن يكون الذِّكر المفعول عند رمي الجمار وتكبير التشريق، لأن الآية عامَّة في ذلك.
قوله تعالى: {فكلوا منها} يعني: الأنعام التي تُنحر؛ وهذا أمر إِباحة.
وكان أهل الجاهلية لا يستحلُّون أكل ذبائحهم، فأعلم الله عز وجل أن ذلك جائز، غير أن هذا إِنما يكون في الهدي المتطوَّع به، فأما دم التمتع والقران، فعندنا أنه يجوز أن يأكل منه، وقال الشافعي: لا يجوز، وقد روى عطاء عن ابن عباس أنه قال: من كل الهدي يؤكل، إِلا ما كان من فداءٍ أو جزاءٍ أو نذر.
فأما {البائس} فهو ذو البؤس، وهو شدة الفقر.
قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم} فيه أربعة أقوال.
أحدها: حلق الرأس، وأخذ الشارب، ونتف الإِبط، وحلق العانة، وقص الأظفار، والأخذ من العارضين، ورمي الجمار، والوقوف بعرفة، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثاني: مناسك الحج، رواه عكرمة عن ابن عباس، وهو قول ابن عمر.
والثالث: حلق الرأس، قاله مجاهد.
والرابع: الشعر، والظفر، قاله عكرمة.
والقول الأول أصح.
لأن التفث: الوسخ، والقذارة: من طول الشعر والأظفار والشعث.
وقضاؤه: نقضه، وإِذهابه.
والحاج مغبَّر شعث لم يدَّهن، ولم يستحدَّ، فإذا قضى نسكه، وخرج من إِحرامه بالحلق، والقلم، وقص الأظفار، ولبس الثياب، ونحو ذلك، فهذا قضاء تفثه.
قال الزجاج: وأهل اللغة لا يعرفون التفث إِلا من التفسير، وكأنه الخروج من الإِحرام إِلى الإِحلال.
قوله تعالى: {وليوفوا نذورهم} وروى أبو بكر عن عاصم: {ولْيوفّوا} بتسكين اللام وتشديد الفاء.
قال ابن عباس: هو نحر ما نذروا من البُدن.
وقال غيره: ما نذروا من أعمال البرِّ في أيام الحج، فإن الإنسان ربما نذر أن يتصدق إِن رزقه الله رؤية الكعبة، وقد يكون عليه نذور مطلقة، فالأفضل أن يؤدِّيَها بمكة.
قوله تعالى: {وليطوَّفوا بالبيت العتيق} هذا هو الطواف الواجب، لأنه أُمر به بعد الذبح، والذبح إِنما يكون في يوم النحر، فدل على أنه الطواف المفروض.
وفي تسمية البيت عتيقًا أربعة أقوال.
أحدها: لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة.
روى عبد الله بن الزبير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنما سمى الله البيت: العتيق، لأن الله أعتقه من الجبابرة، فلم يظهر عليه جبَّار قط» وهذا قول مجاهد، وقتادة.
والثاني: أن معنى العتيق: القديم، قاله الحسن، وابن زيد.
والثالث: لأنه لم يملك قط، قاله مجاهد في رواية، وسفيان بن عيينة.
والرابع: لأنه أُعتق من الغرق زمان الطوفان، قاله ابن السائب.
وقد تكلَّمنا في هذه السورة في {ليقضوا} {وليوفوا} {وليطوفوا}. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإبراهيم مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت} أي واذكر إذ بوّأنا لإبراهيم؛ يقال: بوّأته منزلًا وبوّأت له.
كما يقال: مكّنتك ومكّنت لك؛ فاللام في قوله: {لإبراهيم} صلة للتأكيد؛ كقوله: {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72]، وهذا قول الفراء.
وقيل: {بوّأنا لإبراهيم مكان البيت} أي أرَيناه أصله ليَبْنِيَه، وكان قد دَرَس بالطوفان وغيره، فلما جاءت مدّة إبراهيم عليه السلام أمره الله ببنيانه، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرًا، فبعث الله ريحًا فكشفت عن أساس آدم عليه السلام، فرتّب قواعده عليه؛ حسبما تقدم بيانه في البقرة.
وقيل: {بوّأنا} نازلة منزلة فعل يتعدّى باللام؛ كنحو جعلنا، أي جعلنا لإبراهيم مكان البيت مُبَوأ. وقال الشاعر:
كم من أخ لي ماجد ** بوّأته بيديّ لَحْدًا

الثانية: {أَن لاَّ تُشْرِكْ} هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام في قول الجمهور.
وقرأ عكرمة {أن لا يُشْرِك} بالياء، على نقل معنى القول الذي قيل له.
قال أبو حاتم: ولابد من نصب الكاف على هذه القراءة، بمعنى لئلا يشرك.
وقيل: إن أن مخففة من الثقيلة.
وقيل مفسرة.
وقيل: زائدة؛ مثل {فَلَمَا أَن جَاءَ البشير} [يوسف: 96].
وفي الآية طعن علي من أشرك من قُطّان البيت؛ أي هذا كان الشرط على أبيكم فمَن بعده وأنتم، فلم تَفُوا بل أشركتم.
وقالت فرقة: الخطاب من قوله: {أن لا تشرك} لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج.
والجمهور على أن ذلك لإبراهيم؛ وهوالأصح.
وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء.
وقيل: عنى به التطهير عن الأوثان؛ كما قال تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30]؛ وذلك أن جُرْهُمًا والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت وحوله قبل أن يبنيه إبراهيم عليه السلام.
وقيل: المعنى نزّه بيتي عن أن يعبد فيه صنم.
وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه.
وقد مضى ما للعلماء في تنزيه المسجد الحرام وغيره من المساجد بما فيه كفاية في سورة براءة.
والقائمون هم المصلون.
وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها، وهو القيام والركوع والسجود.
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)} فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج} قرأ جمهور الناس {وأذِّن} بتشديد الذال.
وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن مُحَيْصِن {وآذن} بتخفيف الذال ومدّ الألف.
ابن عطية: وتصحّف هذا عَلَى ابنِ جِنّي، فإنه حكى عنهما {وأذن} على أنه فعل ماض، وأعرب عَلَى ذلك بأن جعله عطفًا على {بوّأنا}.
والأذان الإعلام، وقد تقدّم في براءة.
الثانية: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، وقيل له: أذّن في الناس بالحج، قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذّن وعليّ الإبلاغ؛ فصعِد إبراهيم خليل الله جبل أبي قُبيس وصاح: يا أيها الناس! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثِيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار، فحُجّوا؛ فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لَبَّيْكَ اللَّهُمّ لَبَّيْك! فمن أجاب يومئذٍ حج على قدر الإجابة، إن أجاب مرّةً فمرّة، وإن أجاب مرتين فمرّتين؛ وجرت التلبية على ذلك؛ قاله ابن عباس وابن جبير.
وروي عن أبي الطُّفيل قال: قال لي ابن عباس: أتدري ما كان أصل التلبية؟ قلت: لا! قال: لما أمِر إبراهيم عليه السلام أن يؤذّن في الناس بالحج خفضت الجبال رؤوسها ورُفعت له القرى؛ فنادى في الناس بالحج فأجابه كل شيء: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْك.
وقيل: إن الخطاب لإبراهيم عليه السلام تمّ عند قوله: {السجود}، ثم خاطب الله عز وجل محمدًا عليه الصلاة والسلام فقال: {وأذّن في الناس بالحج}؛ أي أعلمهم أن عليهم الحج.
وقول ثالث: إن الخطاب من قوله: {أن لا تشرك} مخاطبة للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
وهذا قول أهل النظر؛ لأن القران أنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلا أن يدل دليل قاطع على غير ذلك.
وهاهنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو {أن لا تشرك بي} بالتاء، وهذا مخاطبة لمشاهد، وإبراهيم عليه السلام غائب؛ فالمعنى على هذا: وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله تعالى وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده. وقرأ جمهور الناس {بالحج} بفتح الحاء. وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القران بكسرها. وقيل: إن نداء إبراهيم من جملة ما أمِر به من شرائع الدين. والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وعلى كُلِّ ضَامِرٍ} وعده إجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، وإنما قال: {يأتوك} وإن كانوا يأتون الكعبة لأن المنادَى إبراهيم، فمن أتى الكعبة حاجًا فكأنما أتى إبراهيم؛ لأنه أجاب نداءه، وفيه تشريف إبراهيم.
ابن عطية: {رجالًا} جمع راجل مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب.
وقيل: الرجال جمع رَجْل، والرَّجْل جمع راجل؛ مثل تجار وتجر وتاجر، وصحاب وصحب وصاحب.
وقد يقال في الجمع: رُجّال، بالتشديد؛ مثل كافر وكفار.
وقرأ ابن أبي إسحاق وعكرمة {رُجَالا} بضم الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية الجمع، ورويت عن مجاهد، وقرأ مجاهد {رُجَالَى} على وزن فُعَالَى؛ فهو مثل كسالى.
قال النحاس: في جمع راجل خمسة أوجه، رُجّال مثل رُكّاب، وهو الذي روى عن عكرمة، ورجال مثل قيام، ورَجْلة، ورَجْل، ورَجّالة.
والذي روي عن مجاهد رُجَالًا غير معروف، والأشبه به أن يكون غير منون مثل كُسالى وسُكارى، ولو نُوِّن لكان على فُعالٍ، وفُعَالٌ في الجمع قليل.
وقدّم الرجال على الرُّكبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي.
{وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ} لأن معنى {ضامر} معنى ضوامر.
قال الفراء: ويجوز يأتي على اللفظ.
والضامر: البعير المهزول الذي أتعبه السفر؛ يقال: ضَمَرَ يَضْمُر ضُمورًا؛ فوصفها الله تعالى بالمآل الذي انتهت عليه إلى مكة.
وذكر سبب الضمور فقال: {يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} أي أثّر فيها طول السفر.
وردّ الضمير إلى الإبل تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها؛ كما قال: {والعاديات ضَبْحًا} [العاديات: 1] في خيل الجهاد تكرمة لها حين سعت في سبيل الله.
الرابعة: قال بعضهم: إنما قال: {رجالا} لأن الغالب خروج الرجال إلى الحج دون الإناث؛ فقوله: {رِجَالا} من قولك: هذا رجل؛ وهذا فيه بعد؛ لقوله: {وعلى كل ضامر} يعني الركبان، فدخل فيه الرجال والنساء.
ولما قال تعالى: {رجالا} وبدأ بهم دل ذلك على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب.
قال ابن عباس: ما آسَى على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججتُ ماشيئًّا، فإني سمعت الله عز وجل يقول: {يأتوك رجالا} وقال ابن أبي نجِيح: حج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ماشيين.
وقرأ أصحاب ابن مسعود {يأتون} وهي قراءة ابن أبي عَبْلة والضحاك، والضمير للناس.
الخامسة: لا خلاف في جواز الركوب والمشي، واختلفوا في الأفضل منهما؛ فذهب مالك والشافعي في آخرِين إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكثرة النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب.
وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل لما فيه من المشقّة على النفس، ولحديث أبي سعيد قال: حجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، وقال: «ارْبطوا أوساطكم بأزُرِكم» ومشَى خِلْط الهَرْولَة؛ خرّجه ابن ماجه في سننه.
ولا خلاف في أن الركوب عند مالك في المناسك كلّها أفضل؛ للاقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.
السادسة: استدلّ بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط.
قال مالك في المَوّازِيّة: لا أسمع للبحر ذكرًا، وهذا تأنس، لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه؛ وذلك أن مكة ليست في ضِفّة بحر فيأتيها الناس في السفن، ولابد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلًا وإما على ضامر، فإنما ذكرت حالتا الوصول؛ وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقويّ.
فأما إذا اقترن به عدوٌّ وخوفٌ أو هَوْل شديد أو مرض يلْحَق شخصًا، فمالكٌ والشافعيّ وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع.
قال ابن عطية: وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلامًا، ظاهره أن الوجوب لا يسقط بشيء من هذه الأعذار؛ وهذا ضعيف. قلت: وأضعف من ضعيف، وقد مضى في البقرة بيانه.
والفَجّ: الطريق الواسعة، والجمع فجاج. وقد مضى في الأنبياء.
والعميق: معناه البعيد.
وقراءة الجماعة {يأتِين}، وقرأ أصحاب عبد الله {يأتون} وهذا للركبان و{يأتِين} للجمال؛ كأنه قال: وعلى إبل ضامرة يأتين {مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} أي بعيد؛ ومنه بئر عميقة أي بعيدة القعر؛ ومنه:
وقاتِم الأعْماق خاوِي المختَرق